نوبل.. وكر الذئب الذي افترس أجساد النساء باسم الثقافة

حسن العدم

في نوفمبر/تشرين ثاني 2018 استيقظ العالم على فضيحة هزت أركان الأكاديمية السويدية، ونالت من شخصياتٍ ثقافية وأدبية متنفذة في ستوكهولم، تلك المدينة الهادئة التي تتوسد الشمس الذابلة وهي تميل للغروب، وتصحو من غفوتها على الخيوط اللامعة الذهبية التي تنبعث من ميداليات جائزة نوبل.

وقد سلَّطت تحركاتُ منظمة “أنا أيضا” (Me Too) النسوية، لمحاربة التحرش ضد النساء؛ الضوءَ على كثير من الشخصيات المتنفذة في عالم السياسة والإعلام، لكنْ أن تصل أصداؤها إلى أعرق الصروح الأكاديمية في العالم، فهذا ما لم يكن أحدٌ يتخيل حصوله.

في هذه السلسلة التي عرضتها الجزيرة الوثائقية بعنوان “نوبل.. جائزة الصمت”، سنقف على تفاصيل هذا الملفّ الشائك. فقد تعرضت 18 امرأة من الأوساط الثقافية والأدبية، لواحد على الأقل من أشكال التحرش الجنسي، فأشعل ذلك الخبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل، وكان زير هذه المغامرات هو “جان كلود أرنو” السويدي ذو الأصول الفرنسية الذي تربطه صلات وثيقة بالأكاديمية السويدية، وكان يعتبر نفسه العضو الـ19 في مجلس الأكاديمية.

“جان كلود أرنو”.. زير نساء أوتي لسانا معسولا وقصصا مجنحة

تعتبر جائزة نوبل الأدبية أعظم جائزة في العالم، ويجري اختيار الفائز كل عام من لجنة مؤلفة من 18 عضوا في الأكاديمية السويدية، وهم أعضاء دائمون يعيّنون مدى الحياة، بعد أن يحظى العضو المنتخب بموافقة ملك السويد، ولهم كامل السلطة في اتخاذ قراراتهم، بعيدا عن المساءلة وتدخل وسائل الإعلام والناس. وتتحكم الأكاديمية بموارد غير محدودة، وتوزع سنويا 15 جائزة بقيمة 30 مليون كرون سويدي.

زير النساء “جان كلود أرنو” السويدي ذو الأصول الفرنسية

وبعيدا عن مبنى الأكاديمية العريق، تعالوا بنا إلى هذا القبو، حيث “المنتدى”، هنا يجتمع العاملون والمتدربون في المجال الثقافي والفني والفكري في ستوكهولم، ومديره التنفيذي هو “جان كلود أرنو” الذي ما يفتأ يتحرش بالمساعِدات والمتدربات علنا، مذكرا بشخصية “هارفي وانستين” المؤثر في هوليود، الذي كان يتحكم في المترشحات للأوسكار.

كان “أرنو” يوحي للناس أنه ينحدر من عائلة غنية ومثقفة في فرنسا، وأنه ترك فرنسا واستقر في السويد لأسباب سياسية، ومع الوقت تبين أن كل هذه الإدعاءات غير صحيحة، والحقيقة أنه سُجِن لأنه تهرب من الخدمة العسكرية، ثم جاء إلى السويد وحصل على وظيفة عامل على قارب.

وفي السويد بات مهوسا بالكذب واختلاق قصص البطولة، وكان يملك ثروة طائلة ويصرف ببذخ. وفي السبعينيات وصل إلى دار الأوبرا بستوكهولم وأخرج عملا في 1976، وكان يعرف عنه عدم الانضباط، فلا يحترم المواعيد وليس مهنيا في عمله، وكان ادعى أنه درس الفلسفة في السوربون، ثم تبين أنه كان فنّي كهرباء.

وفي أحد الأعمال الفنية، طرده المنتج لأنه كان يراه يكثر من ملامسة النساء، إذ لم يكن مظهره الدونجواني هو فقط ما يستخدمه لصيد ضحاياه، ولكنه كان يدّعي أنه يعرف كثيرا من التفاصيل حول كل شيء، وكان يستخدم لباقته في الحديث ليجذب إليه الرجال أيضا، حتى بات معتادا أن يراه الناس في أرقى المنتديات العلمية والثقافية.

كان “أرنو” جزءا من مجموعة تتألف من “هوراس إنغدول” و”ستيغ لارسون”، ولهم علاقة بمجلة “كريس”، الذكورية واسعة الانتشار، ومن خلال هذه المجلة دخل عدد من المثقفين إلى الأكاديمية السويدية، منهم “إنغدول”، أما “أرنو” فلم يكتب في المجلة قط، فقد كانوا يرونه أقل من ذلك، بل كان كثيرون يعتبرونه من “سماسرة الثقافة”.

لكن كثرة أكاذيبه وقصصه التي كان يروجها عن نفسه، ودائرة الرجال التي رسمها حول نفسه، سمحت له أن يدخل ساحة الثقافة السويدية من بابها العريض. وتوّج ذلك بأن وصل إلى “كاتارينا فروستنسون” التي ستكون زوجة المستقبل.

“كاتارينا فروستنسون”.. علاقة حب بالنهار وجرائم جنسية بالليل

تعتبر الشاعرة “كاتارينا فروستنسون” وجها ثقافيا سويديا وعالميا مشهورا، فقد كانت توصف في الإعلام بأنها متفردة في الشِعر، وقادمة من عالم الخيال، وكانت على علاقة استمرت بضع سنوات بالفنان “غوران لاغر”، وفجأة تردد صدى ارتباطها بـ”جان كلود أرنو”.

كان الأصدقاء المشترَكون بين “أرنو” و”كاتارينا” يلاحظون بأعينهم أنه ما زال يغازل الفتيات ويتحرش بهنّ، فقرروا أن يتحدثوا بصراحة إليها، ويخبروها أن هذه العلاقة لا تليق بمكانتها، وسيكون مصيرها الفشل، لكنها لم تسمع لهم.

الشاعرة “كاتارينا فروستنسون” زوجة جان كلود أرنو وجه ثقافي سويدي وعالمي مشهور

كان “أرنو” في النهار حبيب “كاتارينا”، أما في الليل فكانت مغامراته في مقهى “برنسن” فكانت تثير الاشمئزاز، فقد تحدثت إحدى ضحاياه عن حركات وقحة كان يفعلها، يلامس فيها الأجزاء الحساسة من جسد المرأة بجرأة في العلن، لكن الجميع صمتوا وكانوا يتستّرون على الأمر، وكانوا ينظرون إليه على أنه مهرج، ثم مع تطور الأحداث أصبح مجرما جنسيا بامتياز.

فقد وضع يوما لإحداهن المخدر في الشراب، ونقلها إلى شقته، وبعد أن فرغ منها أركبها سيارة أجرة إلى منزلها وهي ما زالت مخدَّرة، لكنها لم تكن المرة الوحيدة، فالرجل له من الجاذبية واللباقة ما جعل الضحية تعود إليه ثانية، وفي الانتظار كان هو لا يضيع وقته، فالضحايا كُثر.

“المنتدى”.. قبو الخطايا السوداء وجسر الأكاديمية

في أواخر الثمانينيات استطاع “أرنو” إنشاء “المنتدى” بمساعدة “كاتارينا”، وأصبح هذا القبوُ المظلم مطمحَ آمال الشباب السويدي، بل صار ملتقى لألمع وجوه الثقافة والفن وبعض المتنفذين في ستوكهولم، فقد كان الجميع يحس بالدفء، لقربهم الشديد من الشاعرة المتألقة “كاتارينا”.

توّجت “كاتارينا” أحلامها بأن انتخبت عضوا دائما في الأكاديمية السويدية، وهو ما أعطى دفعة تسويقية هائلة “للمنتدى”، واقترب “أرنو” أكثر من النخبة الثقافية، حتى كان يعدّ العضو التاسع عشر في الأكاديمية مجازا، وكان يجرؤ على أن يكرر أن “المنتدى” هو الطريق الأقصر إلى الأكاديمية.

حاز “أرنو” على النفوذ والمال، وأصبح الجميع يخشونه، وأصبح ينتقى فرائسه من النساء انتقاء، وكان الصمت سيد الموقف، إذ كان الجميع رجالا ونساء يعرفون ماذا يحدث، ولكن لم يتفوه أحدٌ بكلمة. لقد كان يمكن أن يُطرد “أرنو” من هذا الفردوس منذ 1996، ولكنّ صمت الخوف مكّنه من مواصلة طريقه في دهاليز الخطيئة حتى 2018.

تاريخيا منذ تأسيسها في 1786، يهيمن على الأكاديمية السويدية الرجال ذوو البشرة البيضاء، وفي 1914 دخلت أول امرأة الأكاديمية، وكانت حاصلة على جائزة نوبل، والمريب أن الرجال يحصلون على نوبل بعد انضمامهم للأكاديمية.

عموما، كان ينظَر للرجال على أنهم هم من يكتب أدب البشرية وثقافتها، بينما النساء مجموعة جزئية يمكنهنّ الكتابة عن أنفسهنّ، فمن بين مئات الرجال الذين حازوا على جائزة نوبل للآداب هنالك 14 امرأة فقط حققن الجائزة.

غطرسة الجاني وصمت الضحايا.. برجوازية ستوكهولم

كان “جان كلود أرنو” يفرض نفسه فرضا، ولا يتردد في الاتصال عشرات المرات بامرأة ما، حتى يصبحَ هاجسا لديها، فتستجيب له راغمة، وقد يُسكِرها ويستمتع بها، ثم يتركها تلملم عارها بيديها، وكان يستدرج ضحاياه إلى المنتدى، ويغريهم بتبنّي أعمالهم ومشاريعهم، ويترك لهم المساحات ليستخدموها، ثم لا يجد حرجا في أن يحصل على الثمن بالصورة التي يريد.

كما كان يستغل حاجة الفتيات للمال من أجل مواصلة تعليمهن أو تنفيذ مشاريعهنّ، فينفق عليها في مقابل أن تسلّم جسدها له، وكان يهدّد أن بإمكانه إغلاق الطريق أمامها مثلما مهّدها لها، بينما الفتاة تقنع نفسها أن الأمور تسير هكذا أيما كان، وأن عليها أن ترضى بمصيرها، أما هو فقد أقام مختلف العلاقات مع النساء، زوجة أو عشيقة.

وفي فرنسا يقال: “المنعُ ممنوعٌ”، وعلى هذا سارت الأكاديمية الفرنسية وتبعتها السويدية، فكان ينظر إلى “أرنو” أنه يمثل النخبة الفرنسية في السويد، التي تفعل ما تريد دون مساءلة، إنه استعلاء البورجوازية المخملية التي تبيح لنفسها التصرف دون ضوابط أو أخلاقيات، بل يصفون الغير بأنهم أخلاقيون، وبهذا لا مكان لهم وسط النخبة.

ضخت الأكاديمية السويدية ومدينة ستوكهولم ومنظمات حكومية أموالا في مشاريع “أرنو” الثقافية، ومكّنته من الاستمرار، لقد كان دعما ممنهجا للقمع. “كل هؤلاء صمّوا آذانهم عن صراخ عارنا الصامت”، هكذا صرخت “آنّا كارين”، وأرسلت إلى كل هذه المؤسسات: “إن أرنو يسيء استخدام أموالكم، ويؤذي بها النساء، توقفوا عن دعمه”.

تحرش يصل إلى العائلة المالكة.. سلوكيات مقززة

وصلت الرسالة إلى الصحفي “نيكولاس سفينسون” العامل في صحيفة “إكسبرسن”، وكان ذلك في أبريل/نيسان 1997 فحاول الوصول إلى الأكاديمية، فلم يجبه أحد، ليتبين له أن هذا سلوك اعتيادي من “أرنو” ضد الكثير من النساء، وأن أعضاءً في الأكاديمية يعرفون هذا السلوك ويتستّرون عليه، حتى أن زوجته “كاتارينا” استنكرت الاتهامات، ولم ترد على أسئلة الصحفي.

تلاشى الأمر تماما، ولم تعلق أي وسيلة إعلام على التحقيق الذي نشرته الصحيفة، وتجاهلته الأكاديمية تماما، لقد كانت الأكاديمية ناديا للمراهقين الكبار، يحمي بعضهم بعضا، ويحافظون على مصالحهم المالية. وكان “أرنو” مهوسا بحب الظهور، ولكنه مقزز في سلوكياته، يهاجم من يقف في طريقه قائلا: أتعرف من أنا؟ أتعرف زوجتي؟ سأدمرك.

في إحدى الحفلات لم تسلم ولية عهد السويد أيضا من تحرش جون كلود أرنو

وقد تعرض للطرد كثيرا من مقاهٍ وأماكن احتفالات ولقاءات، لأنه كان يسيء إلى النساء بفجاجة، وكان يستخدم اسم زوجته لتبرير أفعاله، وكان يزعم أنها هي نتيجةٌ من نتائج إبداعاته، حتى أنه تحرش يوما بامرأة من العائلة المالكة على مرأى من الجميع، وكانت ولية العهد، فقد جاء من خلفها ووضع يده على ظهرها نزولا إلى الأسفل، لولا أن حارسها الشخصي انقضّ عليه وجذبه من ربطة شعره وأبعده. وكالعادة فقد تجاهل الناس والإعلام الحادثة، رغم وجود شهود تحدثوا عنها فيما بعد.

وليس “جان كلود” وحده هو موضوع التحرش، ولكن هنالك منظومة متكاملة تحميه وتتستَّر على أفعاله، وإلا، فلماذا كل هذا الحرص على دعم مشاريعه وتزويده بالمال، وتقليده ميدالية ملكية رفيعة؟ ولماذا لا يجرؤ أي صحفي على استكمال تحقيق بشأنه؟ وأي نفوذ هذا الذي يمارسه على رؤساء التحرير حتى يوقفوا النشر؟

في المقابل، كان هنالك صمت مطبق من قبل الضحايا، فلا أحد يجرؤ على الحديث، كانت الفتيات يشعرنَ بالضعف من داخلهن، يخشين أن لا يصدقهن أحد. لكن تغير كل ذلك بعد ظهور حركة (Me Too) النسائية، عندما تصدّت للأمر “ماتيلدا غوستافسون” المراسلة الثقافية في “داغنس نيهتر”، وأخذت على عاتقها إعداد تقرير تستقصي فيه من الضحايا كل حوادث الاعتداء الجنسي التي مارسها “أرنو” بحقهن.

انفصام الشخصية.. صراع عنيف بين الجانب الحسن والسيئ

أعطى المنتدى لمؤسسه “جان كلود أرنو” سلطات غير محدودة، فصار يشرِّع داخل هذا العالم الثقافي المغلق ما يحلو له، ويقوم بالتوجيه والتوبيخ بلا لباقة، وكان يجبر النساء على الانصياع لرغباته دون أدنى ذرة خجل، وكنّ يستجبنَ له راغمات خشية أن يؤذيهنّ، وكان يتولى بنفسه صرف الأجور الزهيدة للعازفات والمؤديات في الفرق الموسيقية التي تعرض في المنتدى، وكان يحتفظ لنفسه بالجزء الأكبر من المال.

وكان يبدو غريب الأطوار، كأنه مصاب بانفصام في الشخصية، فيه الجانب الحسن والآخر السيئ، لا تدري من سيكون حظك منهما اليوم، تتحدث إحدى الضحايا أنه كان يبدو منجذبا إلى أعمالها، ويغدق عليها عبارات الثناء والإطراء، ولكونه مؤثرا وله شبكة من العلاقات، فقد كانت أيضا تتلقى الثناء من قطاع واسع من الناس في دائرته.

فتيات ونسوة قررن التحدث عن قصص اغتصابهن من قبل الرجل المتنفذ جون كلود أرنو

وصار يتقرب إليها ولاحظت هي ذلك ولم ترغب به، فآثرت الابتعاد عن المنتدى خشية الاعتداء عليها، ولكنه استمر في الاتصال بها حتى أقنعها أن تعمل لديه في المنتدى، وكان يسلّط بعض الفتيات على بعض داخل المنتدى، ويهدد أخريات أنهن إذا لم يفعلن ما يريد، فلن يمارسن عملهن الثقافي في أي مكان آخر، فكان يبدع في استخدام مبدأ الثواب والعقاب.

كما كان يحتفظ بدميتَيْ “باربي” مشوّهتَي الوجه، ومربوطتين بحبلٍ في عنقيهما، ويرميهما كيفما شاء في مكانٍ ما من المنتدى، لتعثر عليهما إحدى الشابات، ولتلتقط الرسالة. وكان يتقن سياسة الاستحواذ، فيسيطر على تفاصيل يوميات الضحية، ويتحكم فيما تنشره على حساباتها، والأشخاص الذين تتواصل معهم، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتها.

تفجير الفضيحة.. رد حازم من سيدة الأكاديمية القوية

إنه يوم تاريخي في الأكاديمية، يوم احتلت “سارة دانيوس” منصب الأمين العام للأكاديمية، إنه حدث تقدمي في هذا المجتمع الذكوري بامتياز، فلقد تغيرت صورة الأكاديمية بوجود “سارة دانيوس” التي أعطتها كثيرا من الأَلَق، فهي حادة الذكاء محافِظة لبقة مثقفة واسعة الاطلاع، وقد أحدثت تغييرا جوهريا في صورة الأكاديمية.

كانت “ماتيلدا غوستافسون” -المراسلة الثقافية في “داغنس نيهتر”- قد أنهت مقالتها، وقدمتها لرئيس التحرير في الصحيفة لمراجعتها، وكانت قد جمعت فيها أقوال الضحايا والشهود حول تصرفات “أرنو” على مدى أكثر من 20 عاما، وقد راجعوا المقالة سطرا سطرا، وأعادوا التأكد من جميع الملابسات في كل حوادث الاعتداء والتحرش التي ارتكبها.

مؤتمر صحفي تحدثت فيه الأمينة العامة للأكاديمية “سارة دانيوس” عن قضية التحرش

وفي 22 نوفمبر/تشرين ثاني 2017 صدرت المقالة بعنوان “18 امرأة وفتاة تتعرض لمضايقات جنسية واغتصاب من قبل شخصية متنفذة في الأوساط الثقافية”، كان ذلك في خضم حملة “أنا أيضا” في السويد، تلك الحملة التي تلطخت بسببها سمعة كثير من الرجال البارزين على مستوى العالم، ممن كانت لهم أدوار بطريقة أو بأخرى في الاعتداء على نساء.

كان الجميع يعلم تلك الشخصية على وجه التحديد، إنه “جان كلود أرنو”. وبهذه المقالة اهتزت الأوساط الثقافية والإعلامية في السويد وفي أوروبا على وجه العموم، وأمست الأكاديمية السويدية في مأزق شديد، بعد أن حاصرتها وسائل الإعلام بتفاصيل الاعتداءات المقززة.

وبينما تجاهل أعضاء الأكاديمية من الرجال المقالة، فقد جاء رد فعل “سارة دانيوس” الأمينة العامة للأكاديمية قويا وحازما، فقد أخذت الأمر على محمل الجد، فتحدثت إلى “أرنو” وزوجته “كاتارينا”، لكنهما أنكرا جميع التهم وكذّبا المقالة بجميع تفاصيلها.

أما ردود أفعال الضحايا فتفاوتت من الشعور بالغثيان إلى حدود الصدمة والانتصار، وكانت التفاصيل متشابهة كثيرا، في التهديد والترغيب، والابتزاز والاستحواذ، والتلطف والعنف، والسطوة والسيطرة. ومع مرور الوقت آثر عددٌ من أعضاء الأكاديمية النأيَ بأنفسهم عن المتهم، دون الإدلاء بتصريحات، بينما اعترف بعضهم الآخر أن ما جاء في المقالة صحيح.

صراع الأكاديمية.. مكتب محاماة ينبش ما تحت الطاولة

عقدت الأكاديمية أول اجتماع لها بعد نشر المقالة، وقررت وقف جميع الاتصالات وتمويل المشاريع للشخصية الثقافية المشار إليها في المقالة، وقالت الأمينة العامة للأكاديمية “سارة دانيوس” إن القرار الأوّلي جاء بناء على ما ورد في الصحيفة، وكذلك الأقوال التي أدلى بها بعض أعضاء الأكاديمية عن أمور “غير مرغوب فيها”، حدثت لهم أو لبناتهم أو زوجاتهم.

كلّفت “سارة” محاميا للبحث في علاقة “أرنو” بالأكاديمية وأعضائها، وما إذا كانت هذه العلاقات سليمة وتحترم قواعد الأكاديمية السويدية، كانت خطوة حازمة أشاد بها الجميع، بمن فيهم “هوراس إنغدول”، الأمين العام السابق للأكاديمية.

“هوراس إنغدول” الأمين العام السابق للأكاديمية ينكر ضلوع جون كلود أرنو بقضايا تحرش

وبعد عطلة أعياد الميلاد، وفي أول جلسة للأكاديمية في يناير/كانون ثاني 2018، غيّر “هوراس إنغدول” -الأمين العام السابق للأكاديمية- أقواله، وهاجم “سارة دانيوس” بعنف، “التي تتيح بهذا التحقيق، النيل من ثوابت الأكاديمية، وسمعة أحد أعضائها”، يقصد “كاتارينا” زوجة “أرنو”. فما الذي حدث حتى يغير “إنغدول” أقواله؟

لدى كثير من المراقبين شكوك أن “أرنو” يملك أوراق ضغط وابتزاز ضد بعض أعضاء المنتدى، ويستشهدون بحادثة مشابهة وقعت للروائي “إيستر غرين” الذي تواصلت معه بائعة هوى لتستميله، وتبين لاحقا أنها من طرف “جان كلود أرنو”.

وقد استدعي أعضاء الأكاديمية فرادى إلى مكتب المحاماة، وطلب من كل واحد منهم قراءة التحقيق الذي خلص إليه المحامي (227 صفحة)، وقد أعدت منه نسختان فقط، ولم يسمح للأعضاء بتصوير أي جزء منه، وإنما سمح لهم فقط بقراءته وتدوين ملاحظات.

خلص التقرير إلى أن الأعضاء لم يكن أحد منهم على علم بارتكاب، أو بزعم ارتكاب “جان كلود أرنو” فعلا إجراميا يتعلق بالتحرش الجنسي، كما أشار التقرير إلى أن “أرنو” استخدم الشقة التابعة للأكاديمية في باريس لأغراض شخصية، مع أنه كان مكلفا رسميا برعايتها، ويتقاضى أجرا على ذلك.

نساء من حركة “مي تو” في بلدان كثيرة حول العالم يتظاهرن للاقتصاص من المتحرشين

وأشار كذلك إلى أن “كاتارينا” سرّبت إلى زوجها “أرنو” سبع مرات على الأقل أسماء الفائزين بجائزة نوبل للآداب، وهذا يعتبر عارا شديدا بحق الأكاديمية حسب لوائحها، وأن هنالك مصالح متداخلة بين كونها عضوا بالأكاديمية، وكونها زوجة لـ”أرنو” وشريكة في المنتدى الذي يُدعم بـ126 ألف كرون من أموال الأكاديمية سنويا، وهذه مخالفة صريحة للوائح الأكاديمية.

أكاديمية المراهقين تلفظ المرأة القوية.. مؤامرة ذكورية

ذكر تقريرُ المحامي صراحة وجوبَ ترك “كاتارينا فروستنسون” -زوجة “جان كلود أرنو”- مقعدَها في الأكاديمية، وهنا بات واضحا ظهور تيارين متناقضين في الأكاديمية؛ “سارة دانيوس” ومؤيدوها الطامحون إلى جعل الأكاديمية حداثية منفتحة تسمح للقضاء بالاطلاع على ملفاتها، والتيار الآخر فريق “هوراس إنغدول” الذي يدعو إلى الحفاظ على تقاليد ونخبوية وعزلة الأكاديمية.

وفي سابقة لم تحدث منذ 1794 أُجري تصويتٌ على إقصاء “كاتارينا” من عضوية الأكاديمية، وكانت النتيجة 8-6 لصالح إبقاءها، ثم جرى تصويت آخر على تقديم تقرير مكتب المحاماة للقضاء أو الإبقاء على سريته داخل الأكاديمية، وخسرت “دانيوس” للمرة الثانية.

“سارة دانيوس” تتقلد منصب الأمين العام للأكاديمية السويدية

وفي 7 أبريل/نيسان 2018 حدث زلزال داخل الأكاديمية، باستقالة ثلاثة أعضاء رجال من مناصري الأمين العام “سارة دانيوس”، وهم “أوستريرن” و”إسبمارك” و”إنغلوند”، احتجاجا على “الانهيار الأخلاقي” في الأكاديمية. وكتب خصمها اللدود “إنغدول” في صحيفة “إكسبرسن” هجوما قاسيا عليها، واصفا إياها بأنها أسوأ أمين عام منذ 1786، لأنها نقلت الصراعات الداخلية إلى وسائل الإعلام.

بعدها حازت “سارة دانيوس” على إعجاب الناس وخصوصا النساء، فأصبحت بطلة في أعينهن، تدافع عن الضعيفات منهن، وتستفز ذكورية رجال الأكاديمية بمواقفها الحاسمة، فكرامة امرأة واحدة مهمة، ولو ثبت أن امرأة واحدة تعرضت لاعتداء ما، فيجب فتح تحقيق وتجريم الفاعل كائنا من كان، يجب أن لا نُقدِّم سمعة الأكاديمية على كرامة امرأة مهدورة. “فلا شيء على وجه الأرض يستحق أن تدفعي له ثمنا من جسدك”.

وفي الأشهر القليلة التالية حيكت على نارٍ هادئة مؤامرةُ طرد “سارة دانيوس” من الأكاديمية، ونجحت الخطة، فلقد طغت إرادة الرجل المدمن على الجنس على إرادة المرأة التي كانت تدافع عن النساء المعتدى عليهن. لقد انتصرت الذكورة التقليدية في الأكاديمية على صوت الحق، ورغم ذلك فقد تلقت “سارة” دعما كبيرا من المجتمع النسوي والساسة والمشاهير، وأصبحت عقدة قميصها رمزا للمقاومة.

مؤامرة بالأكاديمية السويدية لإقصاء “سارة دانيوس” بسبب وقوفها إلى جانب خبر فضيحة التحرش

أدركت مؤسسة جائزة نوبل التي تمنح الأكاديمية حقَّ تحديد الأشخاص الذين يستحقون الجائزة، أن سوء النية والاضطرابات داخل الأكاديمية سيمتد إلى الجائزة، فسارعت الأكاديمية إلى إعلان أنها ستقدم ملف التحقيق إلى السلطات، في محاولة لاسترضاء مؤسسة نوبل. لكن الرد جاء مدوّيا؛ لقد حجبت جائزة نوبل للآداب للعام 2018.

سقوط الذئب المفترس.. انتصار الضحايا في أروقة المحاكم

في 19 سبتمبر/ أيلول 2018 قُدّم “جان كلود أرنو” البالغ 72 عاما للمحاكمة في قضيتي اغتصاب، وحضرت زوجته “كاتارينا” شاهدةً، هذان الزوجان اللذان كانا يحيطان نفسيهما بهالة من السحر، انكشفا للجمهور وتبددت عنهما كل الحجب.

صدر الحكم على “أرنو” بالسجن مدة عامين بتهمة الاغتصاب، ولدى استئناف الحكم من قِبله، زادت محاكمُ الاستئناف الحكمَ مدة عامين ونصف بدل العامين. لقد انتصرت الحقيقة، ولا يجب على النساء المعتدى عليهن الشعور بالعار، بل الجاني هو من ينبغي عليه الشعور به.

مقالة بعنوان “18 امرأة وفتاة يتعرضن لمضايقات جنسية واغتصاب من قبل شخصية متنفذة في الأوساط الثقافية”

لقد تحررت جميع الضحايا من هذا الكابوس الذي جثم على صدورهن لأكثر من 20 عاما، واحدة منهن فقط هي التي وقفت أمام المحكمة، وتحملت عبء وصف الاعتداء عليها، لقد أحست أنها تُغتَصب مرة ثانية في قاعة المحكمة، ولكنها تحلت بالقوة وحكت حكايتها، ثم نالت حقها وحقوق جميع النساء اللاتي عانَيْن مثلها.

حاولت الأكاديمية امتصاص الصدمة التي لطّخت سمعتها، فصوتت على قرار يسمح لـ”كاتارينا فروستنسون” بالاستقالة طواعية وفورا، لتتفرغ لكتابة مذكراتها عن هذه الفترة العصيبة، مكررةً احتقارها للنساء اللاتي حاكمن زوجها، ومصرّة على براءة حبيبها “جان كلود أرنو” من كل هذه الادعاءات التي تنمّ عن غيرة أولئك الشيطانات.

في 2018 قُدّم “جان كلود أرنو” البالغ 72 عاما للمحاكمة في قضيتي اغتصاب وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين ونصف

يمكن أن تكون الأكاديمية قد تعلمت درسا من الأزمة، فقد أظهرت بعض مظاهر التجديد في الخطاب وفي الأعضاء، لكن ثلة من الحرس القديم ما تزال على مقاعدها، تحارب من أجل العودة إلى سياسة الأبواب المغلقة، وثوب القداسة الذي لا ينازَع، وما زال منهم من يقول إن الجنس انتصار للرجل وهزيمة للمرأة.

وإن كان من نصرٍ حققته حركة “مي تو” (Me Too)، فهو أنها حررّت المرأة الضحية من ثوب العار، وألبسته للجاني.

وكالة الجزيرة

إعداد

Moawia Mohammed


اكتشاف المزيد من freeminds24.com

اشترك للحصول على أحدث التدوينات في بريدك الإلكتروني.

أضف تعليق