مراسلات مي زيادة مع العقاد وجبران خليل جبران .

لعل معظم الأدباء الذين التقوا بمي زيادة وتعاملوا معها أعجبوا بجمالها وذوقها، وقد عبّروا عن المشاعر التي خالطت نفوسهم تجاهها، وكان تعبيرهم إمّا مباشرة أو عن طريق الفنون الأدبية التي أحبوها، فيكتبون الأشعار والرسائل ويهدونها أعمالاً أدبية كاملة، واختلفت ملامح تلك العواطف وطرق التعبير عنها باختلاف شخصية كل منهم ودرجة اقترابه من فهم شخصية مي زيادة وتركيبتها الفكرية والإنسانية، وأغرى هذا الجانب إلهام -أي علاقة مي بالأدباء المحيطين بها- من حياة مي الكثير من الكتاب والباحثين للغوص في تفاصيله ودقائقه، وصولًا إلى حقيقة من هو الرجل الحقيقي في حياة مي، هل هو العقاد، أومصطفى صادق الرافعي، أو ولي الدين يكن، أو خليل مطران؟

مي زيادة صاحبة أشهر صالون أدبي في القرن العشرين، كان صالونها مُلتقى أدباء وعمالقة الفكر في عصرها، وهي مثقفة من طراز فريد تُجيد العديد من اللغات وتصل قامتها الأدبية إلى قامات كبار رجال الفكر في عصرها، كان الكاتب المفكر عباس محمود العقاد لا ينكر حبه لمي، وقد لمح له كثيرًا وأعطى مي زيادة اسمًا مستعارًا وهو هند، وعرفها العقاد في البداية عن طريق مقالاتها في الصحف ثم من كتبها، وبدأت علاقتهما بالخطابات هو من أسوان بلدته التي يقيم بها قبل استقراره في القاهرة، وهي من القاهرة حيث استوطنت مصر بعد قدومها من لبنان بصحبة والديها.

عندما عاد العقاد من أسوان سارع بزيارة مي يملؤه الشوق والحنين إلى تلك الشخصية التي فتنته قبل أن يراها، لكن حب العقاد كان مختلفًا عن حب مي زيادة، فالعقاد كان يؤمن بطوفان المشاعر وتوحد الحبيبين نفسًا وروحًا وجسدًا، وكانت مي تؤمن بالحب العفيف الذي يرتفع عن رغبات الجسد ويسمو إلى عالم الروحانيات وصداقة الفكر .

كيف تجلى الحب والحكمة في مكاتبات مي زيادة والعقاد؟ لا شك أنّ العقاد احترق بحبّ ميّ زيادة في صمت، والدليل على ذلك قصائده الكثيرة إليها التي تحمل كل مشاعر الحب، يقول الكاتب عبد الفتاح الديدي: يبدو أن هذه الفتاة لعبت أخطر دور في حياة العقاد لأنها أعطته السعادة وما لم يكن يخطر له على بال، ولكنها وقفت أمامه ندًا لند وناوأت رجولته وسطوته وكبرياءه، وصدمت أحلام العقاد بفرديتها واستقلالها وشبابها المتأنق المدرك لأصول العلاقات.

كانت الخطابات المتبادلة بين مي والعقاد ثروة أدبية فكرية إنسانية، ودليل في الوقت نفسه على رابطة متينة قوية بين الطرفين، يحدثنا أحمد حسين الطهاوي عن ذلك في كتابه: “غرام مي وجبران بين الحقيقة والخيال” فهو يلاحظ في رسائلها الغرامية إلى جبران أنها كانت تعيش شبه حالة حب مع عباس محمود العقاد استنادًا إلى رسائل اكتشفها طاهر الطناحي .

كان العقاد ينتهز كل فرصة أو وسيلة ممكنة للتقرب من مي زيادة والتعبير لها عن حبه ومشاعره الصادقة والعميقة التي تحدث في روايته سارة وفي رسائله العديدة إلى مي، وأيضًا في اللقاءات التي جمعتهما معًا؛ أي أنّ العقاد لم يخجل يومًا في التعبير صراحةً أو ضمنًا عن مشاعره تجاه مي، أمّا عن مي زيادة فإن مشاعرها وسماتها اتصفت بشيء من الركازة والاتزان والغموض، فلا يمكن الحكم صراحة وقطعًا بمشاعرها تجاه العقاد كما كانت تجاه جبران التي ذاعت رسائلها وكتاباتها جميع الآفاق،

إذ يمكن الحكم على رسائل العقاد بالحب الواضح الصريح، بينما تجلت الحكمة الجميلة على رسائل مي زيادة.[٣] رسائل العقاد إلى مي زيادة هل تشكل الرسائل التي كتبها العقاد قيمة أدبية حقيقية؟ شكلت رسائل العقاد لمي زيادة ثروة أدبية حقيقة نستمتع بقراءتها إلى يومنا هذا،

إذ يقول: “كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من تلك الأوراق إلى تلك الأوراق، كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان، وكان يغازلها فتومئ إليه بإصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظر إلى عينيها لم يدرِ، أتستزيد أم تنهاه، لكنه يدري أنّ الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز” .

“وإنّي أبصرك الساعة بين الماء والسماء فأشعر بوجود الله حقًّا وأحس بمحضره قريبًا، لأنني لا أستطيع أن أعرف قوة غيره تحمل ذلك المهد السابح الذي أتمثلك فيه طفلة وادعة في أحضان ذلك الحنان السرمدي، بل إني أكاد أراك رأي العين في غدوك ورواحك ويقظتك ونومك واجتماعك وانفرادك، بماذا أقول إنّي لا ينقصني من رؤيتك شيء” .

“لقد كانت متديّنة تؤمن بالبعث، وأنّها ستقف بين يديّ الله يومًا ويُحاسيها على آثامها، فكانت برغم شعورها بالحياة، وإحساسها العميق الصادق، وذكائها الوضَّاء، وروحها الشفافة، ورقتها وأنوثتها تحرص على أن تمارس هذه الحياة بعفة واتزان”.

رسائل مي زيادة إلى العقاد

ما أجمل ما قدمته مي للعقاد من رسائل؟ من الرسائل التي كتبتها مي زيادة إلى العقاد وقد عبّرت من خلالها عن حبّه له ما يأتي:

“وحسبي أن أقول لك: إنّ ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان، بل إنّني خشيتُ أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة “المحروسة”، إنّ الحياء منعني، وقد ظننتُ أنّ اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك، والآن عرفتُ شعورك، وعرفتُ لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران”.

“لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعلّه لن يراني، كما أني لم أره إلَّا في تلك الصور التي تنشرها الصحف، ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها، أليس كذلك؟!

معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورًا بأنّ لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتّع بها وجداني”.[٨] “إنّني لا أستطيع أن أصف لكَ شعوري حين قرأت القصيدة التي أرسلتها لي، وحسبي أن أقول لك أنّ ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان .

من إحدى رسائل مي لجبران خليل جبران


اكتشاف المزيد من freeminds24.com

Subscribe to get the latest posts sent to your email.

أضف تعليق